بسمة النسور
في افتتاحٍ كان مُوفَّقاً لفعّاليات البرنامج الثقافي لمهرجان جرش للثقافة والفنون، أُقيمت في المركز الثقافي المَلَكي في عمّان ندوة عن محمود درويش، وسط حضور نوعي وجماهيري، أدارتها باقتدار وزيرة الثقافة الأردنية الصديقة هيفاء النجّار، فأشارت إلى أنّ هذه الندوة تُقام وفاءً لفلسطين، ولشاعرها الأجمل، وشارك فيها كلّ من الفنّان المُلتزِم مارسيل خليفة، ومحامي الراحل وصديقه المُقرّب جواد بولس، والمؤلّف الموسيقي القادم من فلسطين وسام جبران، والناقد الأردني فخري صالح.
تنوّعت أوراق المشاركين بين الشهادات الشخصية والتحليل النقدي، ما ميّز الندوة بالجدّية وبالتنوع، وعرّف الحضور إلى الجانب الإنساني للشاعر الكبير. تحدّث جواد بولس في شهادة إبداعية تحمل كثيراً من الحنين والأسى والحبّ عن زيارة درويش الأخيرة إلى فلسطين، قبل مغادرته إلى أميركا لإجراء عملية مصيرية. تردّد طويلاً قبل أن يتّخذ قراراً بإجرائها، مع علمه التام باحتمالية عدم النجاة منها، غير أنّه كان يُطمئن من حوله بأنّها عملية بسيطة تشبه كي قميص مُجعّد. ويعترف بولس بأنّه لم يكن مُدرِكاً أنّ درويش كان يُودّع الأمكنة والأصدقاء من دون أن يبوح بإحساسه، الذي تمكّن منه، بأنّه سائر في دربٍ لا رجعة فيه.
وفي سرد عفوي حميم، أيقظ مارسيل خليفة المواجع كلّها باستذكار تفاصيل وداع جثمان درويش في مطار ماركا العسكري في عمّان، حين قبّل التابوت، وأنشد رغم الحزن الباهظ ما تيسّر من الشعر، وسَرَد بداية العلاقة التاريخية التي جمعتهما، فحكى قصّة تعارفهما الطريفة، حين لحّن وغنّى بعضاً من قصائد درويش قبل الالتقاء به شخصياً، وحين تمّ اللقاء، قال له محمود مُدَّعياً الغضب: “تعال إلى هنا أيّها الصبي. ألا تعرف أنّ للقصائد أصحاباً عليك استئذانهم قبل أن تتصرّف فيها من رأسك؟!”. أجاب الفتى الخجول: “كنت أظنّ أنّ القصائد ملكية عامة”، لتبدأ بين الرجلين صداقة عميقة مُمتدّة في المستوى الإنساني، استمرت إلى اللحظة الأخيرة، وشراكة فنّية أثرت الشارع العربي بالقصائد، التي عبّرت عن وجدان خليفة، فحفظها عن ظهر قلب، وردّدها في المناسبات الوطنية شعارات تحرّر ومقاومة، ورفضاً لطغيان المُحتّل الصهيوني، وعشقاً لفلسطين، وتمجيداً لنضال أبنائها في مقاومة احتلال مُغتصِبٍ أثيمٍ، وأكّد خليفة التشجيع المستمرّ من درويش له للمضي في مغامرته الموسيقية إلى أقصاها، وقد امتدّت حتّى لحظتنا الراهنة، إذ أنجز أخيراً عملَه المسرحي الموسيقي الضخم عن الجدارية، التي اتعبته كثيراً وهو يعيد اكتشاف القصيدة البديعة الأكثر شهرة، مبهوراً بجمالياتها، وبمساحة التأمّل العميق فيها، في تحدٍّ كبيرٍ لنفسه، ومواصلة لمشروعه المُتميّز القائم على احتضان الموسيقى للقصيدة، في تزاوج فريد من نوعه، سيظلّ علامة في تاريخ الموسيقى والشعر العربي. وعبّر عن أمله في أن يرى هذا المشروع النورَ قريباً.
وتناول فخري صالح، الذي كان مُقرّباً من الراحل، في ورقته البحثية الرصينة ثيمة المقاومة في شعر درويش، ورأى أنّ قصائده تُعبّر تماماً عمّا يمرّ به الأهل في غزّة من بطش وعدوان، ما يُؤكّد حضوره رغم الغياب من خلال مُنجَزه الشعري العظيم والخالد. وتحدّث وسام جبران كذلك عن خصوصية العلاقة العميقة بين الموسيقى والشعر في تجربة درويش وخليفة، وأشار إلى أنّ قصائد درويش في المراحل كلّها “خاطبت الجماعة كما خاطبت الفرد، تارّة بحماسة مدوّية، وتارّة بهمس، وتارّة أخرى بقلق”.
وامتدّت الندوة لما يقارب ساعتَين، وحضر درويش بيننا من جديد قامة شعرية فكرية إنسانية شامخة، تتحدّى الغياب، وتستعصي على النسيان. من هنا، لا بدّ من توجيه الشكر للقائمين على إدارة مهرجان جرش على هذه الالتفاتة الذكية، لا سيّما مع اقتراب ذكرى رحيل شاعرنا، الذي تشبّث بالحياة ما استطاع إليها سبيلاً، ثمّ رحل عنها بخفّة فراشة، وحلّق عالياً وقد صار في الفلك الأخير.